..على أثر ذلك أطلقت ضحكه مجلجلة ...فسألتني رنيم عن سبب الضحك ..فقلت :
_"اضحك ....من الأهواء وتقلبها "
_"...كيف ...؟"
.."قارنت تصرف رئيسة القسم مع أسماء , ومعك بالنسبة للأستاذ عدنان "
قالت وقد ابتسمت ابتسامه الواثق :
_"وهل تظنين أن الناس لا يحاسبون على ظلمهم ؟"
وفاء ...وما فائدة الحياة إن كنا نظلم بها ولا أمل في عودة الحق ورفع الظلم , واسترداد الكرامة ...
الدنيا صائرة إلى يباب , والأمل في الآخرة .
أنا لست ممن يحملون القلب الأسود , وتجري دماء الانتقام ...وتعشعش في صدورهم أرواح الشر ..
لكنني إنسانة ...أحس ..وأتألم ...أهتم ...وأحزن ...وقد أظلم في المواطن ..فيسلب حقي ..وتهان كرامتي ..وتخدش كبريائي ..ولا أملك القوة لاسترداد ه , فأغرق في عذاب ممض وخضم سرمديا ..وحينما أتذكر أن هناك عدل في محكمة إلهية ....يوزن فيها حبة خردل ...تطمئن نفسي ...ويهدأ ذلك الاضطرام....
أردد المواقف ...احتسبها في الله , اللهم ثقل بها يوم تتطاير الصحف .."
"أدركت... الآن.... يا وفاء"
كنت قد غرقت في كلمات رنيم , رفعت الآن بصري إليها , فلم تكن الرؤية واضحة بسبب حاجز من الدموع تكون في مقلتي ...لزمني الصمت ..وانسحبت بهدوء حيث الحافلة تنتظرني ...ولم تغب رنيم عن خاطري طوال ذلك اليوم ...سكنت جميع مقاعده ....وشملت جميع مرافقة ..
...حادثت نفسي ...”حقيقة هي مسكينة فقد تعرضت لتجربة قاسية...وهي مازالت صغيرة ..لكن شخصيتها قوية وثقتها بنفسها وقبل ذلك رحمة الله لها وعنايته بها , قد سدَ ما بها من ثغور أيام المراهقة ...وأنا واثقة أنها لا تخلو من صفات ليست بحسنة , لكنها قليلة , بل لا تقارن بكياسة عقلها ...وأخلاقها العالية ..وذاك الالتزام الذي أضفا عليها خمارا رائعا ...السؤال : أيكون ما سبق يتجسد في شخصيتها مع عدنان وتعاملها معه ....وهل تستمر في صمودها وثباتها .....أم تهتز أمام سخرية الأستاذ واستهزاءة .."
وحصلنا على أغلب درجات المواد ...وكانت رنيم من أعلى القاعة درجات صافحتها بحرارة وقلت :
_"مبارك ...لم أكن أتوقع هذا المستوى ؟!"
_"حتى أنا ....الحمد لله على توفيقه "
قلت بهدوء :"كنت أتوقع أن ينخفض مستواك بسبب الأستاذ الأندلسي "
...تنهدت وقالت :"الأدب الأندلسي , كان الله بالعون "
استدركت وقالت :_" بالمناسبة ..ألم تبعث رئيسة القسم بالدرجات "
_"ألم تسمعي الأستاذ ماذا قال في الأسبوع الماضي !"
_" لم أسمع !......ماذا قال ؟"
"يقول انه سوف يعرض بعض نماذج لإجابات الطالبات , ويوضح الأخطاء التي تقع فيها الطالبات الشائعة ,وليثني كما أدعى على بعض الإجابات التي أعجبته "
_"أحقا ما تقولين !"
_" نعم وربي ...إنه لحق "
قالت مع ابتسامة غريبة انبلجت بها شفتيها ...
_"غدا نعرف توجه الأستاذ على حقيقته "
_"ماذا تعنين ..؟!"
_"إن غدا لناظره قريب "
غدا نعرف الأستاذ على حقيقته , أردد هذه الجملة باستغراب وأنا أدلف إلى القاعة لمحاضرة أدب أندلسي ..
...اكتمل العدد , وجلست رنيم في مكانها المعهود ...وجلست بجانبها ..وظهر الأستاذ , الذي لم يحفل بأي أهتمام من قبل الطالبات بطريقته الشاذة في الامتحان .
..ابتدأت المحاضرة , وتحدث الأستاذ عن غرض جديد سوف نتناوله ألا وهو الوصف ....وطرح سؤال على الطالبات قال فيه :
_"ظهر الوصف كفن في الشعر الأندلسي , كما ظهر من قبل في الشعر الجاهلي , والأموي والعباسي , ولكن الأندلسيون برعوا وأبدعوا أكثر من غيرهم فيه ...لماذا ؟!
....تخرج...
فاختفت القلوب , ثم ظهر الإرتياح بعد قال :
"أسماء "
نهضت أسماء وقالت إجابة السؤال :
_"لأن الشعراء في الأندلس أرادوا , يثبتون لغيرهم ببراعة شعرهم , ومكانته الرفيعة , فسلكوا درب الوصف ..."
...قال لأستاذ بعد أن صمت قليلا :
_"الإجابة..خاطئة , تخرج هند وتجيب "
فصمتت هند ثم قالت : "لا أعرف "
وبدأ بطلب الأسماء والجميع يجيب ب:لا أعرف ..
سامية ...سناء ...عزة ...عبير....إلى أن قال :
_"هل من إجابة من أي طالبة ؟!!"
التفتت إلي رنيم وقالت :
_"أنا أعرف ...." فقلت لها مشجعة... "هيا أجيبي "
فنهضت في ثقة كما هي عادتها ....وتناولت السماعة وقالت :
_"أستاذ هل لي أن أجيب ؟"
فقال :"تفضلي "
....قالت :"برع الأندلسيون بالوصف لعدة أسباب من أهمها :
طبيعة البلاد الجغرافية ., فقد امتازت بلاد الأندلس بالمناظر الخلابة , من الأشجار المختلفة , والمياه الجارية , والجبال الشاهقة .., وغيرها , وكذلك الحالة الإقتصادية جيدة و قد دفعتهم إلى الاهتمام بالكماليات , كذلك هناك عامل ثالث لا أعرف مصداقيته ...وهو أنه زعم أهل الأندلس عرفوا بشدة الإحساس , واشتغال العواطف.. "
...وسكتت رنيم و والأستاذ صامت ..
_"!!...فقط ياأستاذ ..."
فتقلب نظري بسرعة الثانية بين الأستاذ ورنيم ..
_" ...رائعة ...وفقت فيها ...من الطالبة ؟!"
....وبوقار الجبل قالت :"رنيم هانئ "
ركزت بصري على الأستاذ ...الذي اجتمعت حبيبات العرق فوق جبينه ..وبشئ من الفوضوية قلب أوراق أمامه ..ثم استأذن وخرج ...وكالعادة ..ركز المهندس في الشاشة آلة التصوير على مكتب الأستاذ وأوراقه ...
فظهر في الشاشة أسماء الطالبات اللاتي طلبن للاستجواب وفي نهاية الورقة دون اسم رنيم لكنه مبتور من الحرف الأخير ...
طلبت من رنيم الجلوس ولفت نظرها إلى الشاشة وقلت لها :
_"انظري ...اسمك ...مبتور ....مامعنى هذا ؟!"
فقالت :_"لا اعلم فقد حلقتي بتفكيرك بعيدا "
..ولم نلبث غلا وعاد الأستاذ وهو يحمل الأوراق وقال بعد أن جلس ...
_"أحضرت بعض أوراق إجابات الطالبات لأعرض منها , ولتستفدن "
ايتسمت رنيم , وسألت عن سبب ذلك ..فقالت :
_"من حسنات الأستاذ أنه مكنَا من ضبط أعصابنا بمفاجئته ...!"
...ثم بدأ بعرض إجابات الطالبات ..ولسع نقده أغلب الطالبات فهذه يسخر من كتابتها التي أختلط فيه النسخ بالرقعة ..وتلك بكثرة الأخطاء الإملائية ..وثالثة برداءة الخط ....ورابعة بتشوه الصفحات ....وخامسة بركاكة الأسلوب ..,...
وعلق على السؤال الأول ...وكيف أن الطالبات ألفن في القصيدة فاختلط الحابل بالنابل , ثم علق على السؤال الثاني والذي كشف له –كما أدعى – المستوى المتدني لطالبات اللاتي عجزت أقلامهن من شرح قصيدة سهلة الكلمات , واضحة المعنى .
وفي النهاية قال :
_" ولا أهضم حق الغير , فقد وجدت سلوتي في إجابات رائعة عما سبقها و من ذلك إجابة على مستوى لم أتوقع أن أجدها قياس بالمستوى المتدني ...فقد كانت نموذجية شاملة ..فبالنسبة لسؤال الأول فقد ساقت شواهد لصاحب القصيدة لم تطلب , وهذا يدل على سعة الإطلاع ...
والرجوع إلى المصادر كما نوهت في بداية أول محاضرة ..
وبالنسبة للسؤال الثاني فهو لوحدة درة , شملت بالشرح جميع الأبيات , ذكرت القائل والمناسبة , بل أدلت بدلوها ...فأبرزت شخصيتها من خلال تعليقها على الأبيات , مستعينة بشواهد خارجية ...
أقرأ عليكن بعضا من ذلك "
وحين سلط الأستاذ على ورقةالإجابة ظهرت بعض الأسطر فقبضت رنيم على عضدي بشدة وقالت :
"وفاء ...إنها ورقتي "
فارتفع صوت الأستاذ بالقراءة :
"يقول الشاعر :
إن كان عز الدنيا اللقاء بكم ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
...من براعة الشاعر أن أختار مكان للقبا أحبته لم يذكره أحد قبله ألا وهو يوم الحشر ...السؤال هنا ....هل ضمن الشاعر اللقاء في ذلك اليوم ..والذي يقول عنه سبحانه وتعالى (و تضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد )..وهل تصور ذاك الموقف الرهيب الذي سيفقه جميع البشر امام الله سبحانه للحساب ...ولعل حبه بمحبوبه أنساه عن تصور ذاك اليوم ..
فيا ليته قال :
ففي جنة الخلد نلقاكم ويكفينا
في أثناء ذلك كانت الطالبات يخمن صاحبة الورقة ..
الأولى :" أظنها عبير , فخط عبير رائع "
الثانية :"لا أظن فالإجابة تامة وعبير متدنية المستوى "
الثالثة :"ربما سلمى أو رنيم "
وتابع الأستاذ :"علاوة على ذلك فالورقة منظمة , والخط رائع والأسلوب أروع
وأقول بكل ثقة هذه الطالبة الوحيدة التي حازت على الدرجة الكاملة , وأرجو أن أعرف أسمها , لأشكرها على المجهود الذي بذلته ..."
فالتفت إلى رنيم التي علقت بصرها على الشاشة حيث ورقتها استحثها على النهوض ...
"....عموما سوف أسأل رئيسة القسم عنها فهي تستحق الشكر "ثم استأذن وخرج....
وحين هممت بالنهوض بعد أن جمعت حاجياتي وكشكولي برفقة رنيم ...ظهرت أسماء فجأة ...وابتسامة ساخرة محشوة في فمها وقالت:
_"الآن عرفت لماذا رفضت أن تكتبي بالأستاذ شكوى "
على أثر كلماتها أطلق من حولها من الحاشية ضحكات السخرية ....
...قالت رنيم ببراءة :"ماذا قلت ؟..لم أفهم ..."
وبتحدي أجابت أسماء :"على مكتب العميدة تفهمين "
خمنت ببعض ما يدور في رأس أسماء ...فقلت لها زاجرة :
_"ألا تخجلين , أو تظنين الجميع على شاكلتك ؟"
...فقالت لي :"رجاء لا تتدخلي "
والتفت إلى رنيم وقالت:_"وداعا يا...الطالبة الوحيدة "
وولت ...وحاشيتها من خلفها ....
فقالت رنيم سائلة :
_"بالله ياوفاء ....ماذا تعني .....؟!"
..."لا تهتمي بصوت الطبل الفارغ ...."
...."أي طبل تقصدين ؟!....."
....حديث أسماء وطريقتها ....أشارت إلى أمر لم أتأكد منه الآن , هكذا أسماء لا تحفلي بكلماتها كثيرا...
....ثم ولى اليوم هادئ ........نسينا موضوع أسماء , ولكن ذكرنا به ابتسامتها المتشفية في اليوم التالي , ولقد فهمتها رنيم بعد أن استدعتها رئيسة القسم , تغيبت عن أغلب المحاضرات ...وقبيل نهاية اليوم الدراسي ذهبت مع المجموعة نستفسر عن سرَ تغيبها عند رئيسة القسم التي أخبرتنا أنها خرجت إلى منزلها ...
شعور لم أتبين معالمه انقبض قلبي على إثره......
...استأذنت من المجموعة , وجلست في حديقة الكلية ...
وعلامات الاستفهام ...تعدوا كالخيل في ميدان تفكيري ...
....."ما الذي حدث ؟ كيف تخرج رنيم من الكلية هكذا !.....صوت ضحكات ممن ؟!..
أسماء وحاشيتها ...لكم أمقتها....أنها توقفت متجهة ناحيتي ...وفي عينيها نظرات تشفي ...ماذا تريد ؟......هاهي تستدير إلى جمهورها سأصغي السمع ...لأسمع:
_"ليخبر الحاضر الغائب , لقد ولى زمن التلاعب ولن يصعد أحد المجد إلا على أشواك ....وليس إعجاب "
لا بتسم استخفاف بها أي المذكرة ...
أتصفحها .....دلالة على عدم الاكتراث ...
ها هي تبتعد ...آه أكاد انفجر غضبا ...بأي عقل تفكر , وبأي مبدأ تسير , وبأي قيم تتعامل ...ماذا تقصد من هذه الكلمات ..
من الأفضل أن أذهب ..
اتجهت إلى البوابة , أنتظر الحافلة , وكل من رآني قال :
_"وفاء ....غريب أن تأتي في هذا الوقت المبكر , المعتاد أن نوقف السائق ينتظرك ......
فأتعلل بالصداع ....
ما إن وطئت قدمي عتبة البيت حتى هرعت إلى الهاتف فجاءني صوتها ضعيف لا أكاد أسمعه ..
قلت برجاء :_"خيرا ....خرجت من الكلية مبكرة ..."
......."........................"
_"رنيم .....,هل تسمعيني ؟!..."
_"نعم, أسمعك "
_"لماذا لا تردي طمئنيني ,بالله أريحيني ......جزما إن أسماء لها ضلع في موضوعك ..."
_"اهدئي يا وفاء ....ثم ....."
_"ثم ماذا ........."
_"هل تستطيعين زيارتي اليوم في البيت "
_"أحاول ....وسأخبرك إن استطعت ؟!"
وافقت والدتي ...فذهبت وأنا لم أتصل ....ففتحت الخادمة وأدخلتني ....واتجهت مباشرة إلى غرفة رنيم ...بعد أن طلبت من الخادمة أن تذهب إلى عملها ....
كان الباب مفتوحا فأد لوت برأسي فوجدتها تتصفح كتابا ....وأحسست بوجد شخص ما ظنت أنني الخادمة فقالت :
فماتت ابتسامة في فمها ....تأملت وجهي ..وكأنها تبحث عن حاجة ضائعة .....
ثم قالت متسائلة :
_"أتظنين ذلك !!"
_"....أو تشكين !؟"
فنهضت ....,سارت نحو المرآة ..وقالت :
_"لقد عادت الأمواج تعصف بزورقي ..."
....."متمثلة بمن ؟"
تنفست بصعوبة , نظرت إليَ وقالت بكلمات متقاطعة :
_"رئيسة القسم ...تتهمني ...تتهمني ..بعلاقة ما مع الأستاذ عدنان .....واستطعت أن أعرف الأسئلة من هذه العلاقة ..."
...ومن بين دهشتي قلت :_"مستحيل "
بثبات قالت :_"كما قلت ...والمحرض الأول هي أسماء , فقد غاظتها ورقة إجابتي ...والتي أقنعت رئيسة القسم بهذا الادعاء؟!"
_"...وما كان على رئيسة القسم ؟"
تفا جئت بكلامها قلت مباشرة :
_" إلا الأستاذ عدنان "
فقالت لي :"أتدافعين عنه , قبل أن تدافعي عن نفسك ؟"
فقلت بحزم :"بل أقصد أن هناك هوة بيني وبين الأستاذ ألا تتذكري موقفي معه في غرفتك هذه "
قالت ساخرة :_"ربما تلك الأيام ......جس نبض "
.....وبكلمتها الأخيرة احترق كل شئ أمامي ....اهتزت الأشياء من حولي , فهممت بالخروج من غرفتها , أوقفتني وقالت :"لن تخرجي من هذه الغرفة حتى تقري بالحقيقة ....!"
فانفجرت في وجهها قائلة :
_"ليس عيبا أن نعترف بتقصيرنا في بعض النواحي لعدم استطاعتنا الخوض فيها , لكن الذي لا يليق ..........أن نفعل , ونجهل ما نفعل نحشوا أفواهنا بكلمات ...لم تتبلور في عقولنا .......!!.....أستاذة ....هل من اللائق أن تصغي السمع وأنت رئيسة القسم .....إلى حاسدة ...إني أربى بك الخوض في مستنقعات التوهمات والأقاويل والادعاءات ..."
قالت :" رنيم ....لقد تعديت حدودك ...كالطالبة "
فقلت :_"وأنت تعديت حدودك كموجهة ومرشدة إلى قاذفة....."
خرجت من غرفتها.....وأنالا ألوي على شئ ....فتوجهت إلى البوابة وطلبت من الحارس أن يتصل بالسائق الذي لم يلبث إلا وحضر ......
فزحفت إلى سجادتي أبث همي إلى مولاي , أشكو إليه قسوة عبيدة وظلمهم ......
...........أرأيت كيف تهب الرياح على أزهاري , وتحاول قطفها ....
أسمعت قعقعة الرعد سماء أيامي ....
...أشعرت بسياط الحياة حين تلهب أضلعي وتمزق أفراحي ...
أأحسست بشتاء المصاعب الذي أسقط أوراق سعادتي ...
......أتذوقت علقم أشجاني ....بعد أن طغى على مشاربي ....."
....وتبع ذلك نحيب يهتز جسدها ....اهتزاز الطائر حين تمد إليه عنقه السكين ...
فصمت انتظرها تهدأ قليلا , ثم طلبت منها أن تسمح دموعها وأخذتها بيدها وخرجنا إلى فناء البيت ....
في البداية سرنا صامتتين ,وما لبثنا إلا وانبلج باب الحديث عن أنواع أشجار الحديقة وأسمائها ...
.....وبعد أن أحسست أنها وصلت إلى حالة لا بأس بها من الاستقرار والهدوء , جلست معها في ركن من المكتبة وقلت :
_"لعله من الأفضل العودة إلى الموضوع "
تنهدت بألم وقالت :
_"تفضلي "
_"لقد علمت خبرا –من نادية طبعا – مفاده أن هناك علاقة بين زوج رئيسة القسم وأب أسماء من ذلك نستطيع أن نفهم تصرفات رئيسة القسم الشاذة وخاصة في هذا الموضوع ,بمعنى أن أسماء هي المحرض , ورئيسة القسم تسمع لها لمصلحة زوجها ....
نظرت إلي رنيم صامتة ....وهي تدعوني إلى أن أكمل , فتابعت :
_"وكان يجب أن تكسبي ود رئيسة القسم ....."
قالت رنيم مقاطعة :
_"وماذا تريدين أن أقول لها بعد أن اتهمتني مع الأستاذ "
...."لاأعلم ..ولكني أتوقع أنها ستثأر لنفسها بعد حديثك معها ....ولا تنسى أنها في موطن قوة ...وتستطيع تنفيذ ما تريد ...."
...فخرجت , ثم خرجت بعدها أسماء ....أحست الطالبات بأمر ما يحدث ..., وانتهى اليوم ...وكل عاد إلى أدراجه واتصلت برنيم ,فلم ترد ,وكررت الاتصال , لكن بدون فائدة ....
وقدم الغد ...ولم أجد رنيم في القاعة ...ولكن نادية ادعت أنها رأتها تلج غرفة العميدة مع ثلاث من أستاذات وأمينة المكتبة ..وسرعان ما تفشت الإشاعات ..واستطالت ألسنة حداد تنهش لحم رنيم قائلة:
_"ستطرد من الكلية لتصرف ما مع رئيسة القسم ..!!"
وثانية :_"سيعقد لها مجلس تأديبي ....وثالثة : الأمر أبلغ , فقد تدخل هيئة التدريس ...؟!!
..ثم انقضى الأسبوع ...والكل في دوامة التساؤلات كنت خلالها أحاول الاتصال على رنيم فلم أوفق ....انقطعت أخبارها ما عدا إشاعة في نهاية الأسبوع تقول أنه عقد جلسة تحقيق حضرتها العميدة وأغلب الدكتورات وشوهدت رنيم تلجها ....
.....وقدم السبت وكان موعد الامتحان الشفهي لمادة الأدب الأندلسي ..وكنت آمل أن أرى رنيم ولكن خاب ظني ........
......._"جاء دورك "
ضربات قلبي تتوالي بسرعة ...أخذت مكاني ...وأمسكت السماعة ...
"ما أسمك الكامل ؟"قال ذلك الأستاذ عدنان بعد أن قلب أوراق معه .....
_""وفاء حامد إبراهيم"
_"لماذا سمي المعتمد بن عباد بهذا الاسم , واذكري أبيات تحفظينها من نظمه ..."
_"سمي بالمعتمد لأنه ...",واندمجت في الإجابة حتى قال لي :
_"أحسنت ...انصرفي "
وحين هممت بالخروج سمعته يخاطب المشرفة بقوله:
_"لم يتبقى إلا طالبة واحدة ذكرتي أنها مقدمة عذر طبي أليس كذلك ؟"
....."نعم اسمها رنيم ....."
وخرجت وأنا أتساءل :
_"أوصل الحد إلى تقديم عذر طبي ....الأمر أبلغ مما تصورت ....
الساعة الخامسة عصرا ....أدرت قرص الهاتف , وطلبت رنيم , وكالعادة لم توافق الخادمة , فأصريت على طلبي فقالت:
_"....إن السيد أمرني برعاية رنيم وعدم إزعاجها بأي خبر وخاصة فيما يتعلق بالكلية ..."
فقلت لها راجية :_"لك علي أن لا أحدثها عن الكلية ....فقط سأسلها عن حالها ....أرجوك "
_"حسنا , لكن لا تطيلي في الحديث كي لا تتعب ...."
_""بإذن الله ..."
وغبت قليلا , ثم جاء صوتا باهتا ضعيفا لم أتبين معالمه فقلت :
_"رنيم....... أأنت رنيم؟"
_""نــ..عم ..كيف حالك ..يا وفاء؟"
_""بخير كيف حالك أنت "
_"الحمد ......لله "
_"قلقنا عليك ...كثيرا "
_"شكرا لك "
_"مما تشكين , ماذا يؤلمك ؟"
_"ألمت بي الحمى ..والحمد لله خفت عما كانت عليه سابقا "
_"جميع المذكرات صورتها لك "
_"لن أنسى جميلك ..."
_"أتركك الآن ...وأرجو أن أتصل وأسمع صوتك أفضل "
_"بإذن الله "
_"السلام عليكم "
_"عليكم السلام ......"
وأغلقت السماعة ...المسالة أكبر مما توقعت ..عموما الآن المهم هي حالة رنيم "
....خلا هذا الأسبوع تحسنت صحتها و استردت عافيتها ...وكنت قد تغيبت عن الكلية استعدادا للامتحانات التي لم يبقى إلا القليل ..وفي أثناءه طلبت رنيم أن أحضر إلى الكلية لكي أزودها بالمذكرات الناقصة والمواضيع المهمة ...في كل مادة ..فلبيت الدعوة ...وذهبت إلى لكلية ...حيث وجدتها منكبه على كتاب الأدب الأندلسي استعدادا لأداء الامتحان الشفهي ...
....صافحتها ..ففوجئت لشكلها ..ليست رنيم التي أعرفتها , فقد فقدت الكثير من وزنها ..واكتسبت من الصفار لونا ..والشحوب جلبابا , وأطلقت عقال تعجبي سائلة :
_"لماذا أصبحت هكذا !,لقد تغيرتي "
فقالت بهدوء :
_"كانت وطئت الحمى شديدة "
قلت متسائلة :
_"فقط الحمى ....؟"
قالت ,وهي تنظر إلى السماء إذا أكربها أمر :
_"تصدقين يا وفاء ..لم أعلم أن هناك من البشر من يحملون قلوب سوداء , تعزف على أوتار الشيطان .., لم أعلم أن الحسد حين يملأ الكائن , ويفيض يحاول إغراقه غيره كما غرق هو ...لم أعلم أن محاولة التشبث بمتاع الدنيا تعمي العقول والأبصار ..عن كل فضيلة ..وكل خلق كريم ..؟"
..._"رنيم ...اجلي الغمام , في سمائي , وأفصحي عن مكنونك "
ابتسمت ابتسامه كئيبة موحشة وقالت :
_"القضية –حقا – مخجلة ,لا أدري كيف انغمست رئيسة القسم في مستنقعها بعد أن حرضتها أسماء , ولكن بعض الأشخاص لا يكفي آن نقول لهم قد أخطأتم بل نجبرهم على الاعتراف بذلك ,وهذا ما حدث ...
فقد اتفقت رئيسة القسم مع أسماء في حكاية تهمة ضدي مفادها تسرب الأسئلة من قبل الأستاذ عدنان إليَ بعد علاقة بيننا , والبرهان ورقة إجابتي ..فهي الوحيدة التي حازت على الدرجة الكاملة ..
حين أخبرتني رئيسة القسم ذلك كدت أجن ..وأخبرت العميدة التي قالت أثبتي غير ذلك ..فعدت إلى البيت ضائقة النفس كسيرة الجناح .. فكرت كثيرا في الأمر , ثم قررت أن أخبر والدي .. والذي ثارت ثورته وتوعد وهدَد , بأن تفصل رئيسة القسم من منصبها ..فتمنيت أني لم اخبره ..
وفي صباح الغد ألهمني الله , فقصدت أمينة المكتبة وطلبت منها أن تحضر بطاقتي وتذهب معي إلى العميدة ..ووافق الجميع ..
وولجت معهن إلى غرفة العميدة التي تفا جئت بهذا الحشد , واستأذنت ودخلت معي , وقلت :
أن رنيم تسربت إليها الأسئلة في مادة الأدب الأندلسي , ولهذا حازت على الدرجة الكاملة من بين الطالبات فما رأيكن بذلك ...
_"إن رنيم أعلى خلقا من هذه التهمة ..ثم إن هذا ديدنها في المواد الأخرى ..فهي متفوقة والجميع يعرف ذلك "
...ووافق البقية على كلام الدكتورة ..فأخذت بطاقتي التي بحوزة أمينة المكتبة , ووضعتها أمام العميدة ..وقلت لها :
_"اقرئي ..أغلب مواد هذا الفصل , استعرت لها مراجع ومنها مادة الأدب الأندلسي .."
فصمتت العميدة وبدا عليها الاهتمام ..تأملت بطاقتي ..فتجسدت الحيرة مع الاضطراب على وجهها ..ثم على صوت الناسوخ المميز حامل من جعبته ورقة رسمت عليها كلمات لا أميزها ...
_"هناك لجنة من الإدارة ستأتي يوم الثلاثاء لتحقيق في دعوة رفعها ولي أر الطالبة رنيم ...ويطلب من العميدة أن تعقد جلسة تضم جميع من له طرف في الدعوة ...!"
...وفشي الخبر كما تفشي النار في الهشيم ...
وعقدت الجلسة في غرفة الاجتماعات , واستدعي لها أغلب الدكتورات وفي المقدمة رئيسة القسم , والوكيلة والأستاذ عدنان ....وأنا وأسماء ... ,أمينة المكتبة , وبالطبع لجنة التحقيق ..
استجوبت أسماء ...ثم رئيسة القسم لأنها صاحبة الدعوة ....ثم أنا ...ثم الأستاذ عدنان الذي كان صوته في السماعة عاليا ..وقد سخر من الدعوة .. وهزأ برئيسة القسم وقال:
_"لم أعلم باسم الطالبة وأنها هي التي حصلت على الدرجة الكاملة إلا اليوم بسبب وجود الشرائط اللاصقة على ورقة الإجابة ولعلي أسأل رئيسة القسم عن سبب وجودها !!
وأعتقد أننا في صرح علم , ولسنا في مسرح جنائي ...ونحن في بلد تأبى علينا تقاليدنا أن ننغمس في هذه المستنقعات والخوض في هذه الأوحال ...
ثم ...أتتهم الطالبة لأن الأستاذ معجب بورقتها إجابتها ..إلى هذا الحد وصل الانحطاط في التفكير ....؟!!"
وفي النهاية برأت ساحتي , وفصلت أسماء أسماء من الكلية أسبوع , وعزلت العميدة رئيسة القسم من منصبها ..
..وكان من نصيبي الحمى أنشبت أظفارها في جسدي ..فقاومتها بشدة وانتصرت في النهاية ونعمت خلال مرضي .....بقرب والدي ..والذي كان فخورا بي ..
وها أنا ذا أعود إلى الكلية ....."
_"..يا لله ..كيف يفعل الحسد بصاحبة "
_"أعتقد يا وفاء أن من يكون لديه دافع بغض النظر عن فحواه يجتهد حتى ينال هدفه ..
...فإن كان الدافع خيرا تقدم واطمئن و وفخور وإن كان شر ..اقترب بخطى وئيدة , خائفة وجلة ...
...كأنني صحوت من حلم مزعج "
_"الحمد لله ..فقد خرجت مرفوعة الرأس بيضاء السيرة "
_"الحمد لله ...الحمد لله "
_"ألم يحن وقت الامتحان "
_"ليس بعد , تبقى من وقت ساعة سأستغلها في المراجعة "
_"إذن سأذهب ..وبعد ساعة سأقدم "
وسرت في مرافق الكلية ..ورنيم قد أتخذت في فكر ي مقعدا ..بعض مطالب النفس الغريبة ..وقد تخرج من طور الإنسانية , كيف لها أن تسلب حق شخص ملكه بعرق جبينه , وقضى وقته في تحصيله ...
...ما أبشع أنانية البشر ...
_"وفاء. ..وفاء"
هذه رنيم يحسن بي الذهاب إليها ...
_"نعم.. "
_"تعالي ..أرديك "
اتجهت إليها ..وحينما وصلت قالت :
_"حان وقت الامتحان فما رأيك بالذهاب معي إلى القاعة ؟
واتجهنا إلى القاعة سويا , وانشغلت رنيم بترديد بغض الأبيات وما لبثنا حتى وصلنا , وكانت المشرفة بالانتظار , وحين رأتني ابتسمت ,وقال :
_"ألم تمتحني , إن الأستاذ أبلغني أن رنيم فقط المتخلفة "
ارتبكت , ولم أقل شيئا..فتدخلت رنيم وأنقذت الموقف بقولها :
_"...بلا لكنها تريد المشاهدة فقط ...وأنا موافقة فما رأيك ؟ "
نظرت إليَ متفحصة وقالت :
_"حسنا "
تنفست الصعداء , ودخلت القاعة برفقة رنيم ..وجلست في احد أركانها , واتصلت المشرفة بالأستاذ , وأخبرته بوجود رنيم فخرج صوت الأستاذ دون صورته "
وقال :_"أأنت مستعدة للامتحان ؟"
فأجابت رنيم :_"نعم ..."
فقال :"ماأسباب سقوط الأندلس واذكري قصيدة ابن الرندي في ذلك ؟"
....وبعد أن سمت _باسم الله _اندمجت في الإجابة وانطلقت في ذكر أسباب سقوط الأندلس .. ثم ذكرت قصيدة ابن الرندي ..وفي النهاية ..قال الأستاذ للمشرفة ..اذهبي إلى رئيسة القسم وأخبريها بأن ترسل من يأخذ درجات الطالبات ..فولت المشرفة خارجة ...وقال الأستاذ :
_"رنيم ..هل أنت هنا "
بادلتني النظرات ..وقالت :_"نعم "
فقال بكلمات هادئة :"السعيد في هذه الدنيا الذي يستفيد من تجاربه السابقة سواء كانت فاشلة أو ناجحة , وقد توسمت فيك العقل فاسدي لك حديثا اعتبريه هدية من أخ صادق ..حريص على سعادتك .."
_"تفضل يا أستاذ "
_"....المعذرة هناك مقدمة لزاما عليَ توضيحها وهي بالعودة بالذاكرة إلى الوراء ..وبالتحديد خمس سنوات ,وحين طلب مني إعادة ما يخصك من أوراق بعد ما حدث مع احد رجال الحسبة , صورتها ثم سلمتها ...كنت قد أضمرت لك السوء .....
.....وبعد فترة من ذلك الحادث علمت أنني مخطئ ..وأن ما قمت به عمل لا يقره خلق ,ومع ذلك عشت صراع داخلي فحواه ..
هل التصرف الذي قامت به رنيم صواب أم خطأ , بالنسبة لي طبعا ...
...حينا أغضب ...وتحفني الكراهية لما أعتبره في حقي مشين ...وحينا أعذرك ..لمحاولتك الإفلات من مخالبي....
وهكذا احترت في أمري ... وملكت القضية عهدا ليس بيسير ....حتى خبى الصراع قليلا مع مرور الوقت ..
..,لكن إرادة الله فوق كل شي , فبعد أن قدمت إلى الكلية للتدريس كانتداب , لم أتوقع أن تكوني في هذه الدفعة ,ولكن قائمة الأسماء , ضمت أسمك كاملا ...
وقد طلبت من رئيسة القسم التقدير العام لكل طالبة ..كل ذاك لأعرف مستواك ...فأعمل على انحدارك...ربما لأثأر من القديم ...
...تصورت أنه لا يوجد ما يهز الوجدان أكثر من الشعر , ولا يسعد القلب ويريح الجوانح والوجدان مثل الأدب , ولكن إجابتك أيقظت الحس من الغيبوبة ...حس نائم منذ الطفولة ..ألا وهو الإحساس الروحي ..بالدين ..
والشعور بالحياة التي يمتلكها القرآن ..وبالقوة التي تنبعث منه ...وفي خضم ذلك ...
تأتي القضية الأخيرة والتي من حياكة رئيسة القسم السابقة ..وإحدى الطالبات ..فنفرت من القضية , ونظرت إليها على أنها قضية مبدأ ..وأن من نال أمر بيده فهو الأحق به ...
...,كان باستطاعتي أن أورطك , وأبرئ ساحتي ..ولكن كلما تذكرت قوله تعالى ...وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد )
..أحسب لنفسي ألف حساب قبل أن أخطو أي خطوة .......
...الشاهد مما ذكرت ...
"أنني أعجب من الإنسان ...كيف أعمل المعصية ..ولذاتها مؤقتة ...وسوف يلقى الجزاء لتفريطه مع الخوف من الناس قبل الله ..وكيف يستقيم العيش لمن يأكل على دموع وشقاء غيره ...
كيف يحيا على جثث الصدق , ولأمانة , وحب الناس ...
أختي رنيم , معاني رائعة التي تدفق بها قلبي ...بعد أن وقفت أمام شلال الإيمان , واستقيت من ماء القرآن ..
....فقد انبثق النور من داخلي وأنا مواقع الخطى ...فدومي على الطريق الذي تسرين فيه فو الله إنه لنعم الطريق ...
آآآه كم من مذكر لله وهو ناس له ! وكم من مخوف من الله وهو جرئ على الله ! وكم من تال لكتاب الله وهو منسلخ عن آيات الله ! وكم من مقرب إلى الله وهو بعيد عن الله !!!! http://www.way2allah.com/khotab-item-53264.htm
جزاك الله خيرا اختي كنز الدعوه (اسال الله ان يجعل لك من اسمك نصيبا) نقلك طيب جدا ففي هذه القصه عبرا كثيره ومنها: 1- ان من اكبر اسباب ضياع الابناء وتشتتهم هم الاباء لانشغالهم في جمع الاموال والركض وراء الدنيا 2- ان خلو القلب من مراقبة الله وحبه ومن الدين هو من اول اسباب الاتجاه الى طرق المعصيه ظننا منهم انها طريق السعاده والراحه 3- ان معصية ساعه قد تسبب ندم عمرا كاملا ناهيك عن عذاب الاخره 4- ان الاجتهاد والتفوق سبيل مهم جدا للدعوه الى الدين 5- انه كما قالت اختنا عبق الحياه انه ليس من العيب ان نخطئ ولكن العيب ان نصر على الخطا
بارك الله فيك اختي ونفع بجهدك وعملك
امل لا ينقطع = حاملة الرايه
انتظروا قسم القصص الدعويه في ثوبه الجديد قريبا ان شاء الله
تعليق